فصل: الجملة الأولى في أصل التسمية والمقصود منها وتنويع الأسماء وما يستحسن منها وما يستقبح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقالة الثالثة في ذكر أمورٍ تشترك فيها أنواع المكاتبات والولايات وغيرهما:

من الأسماء والكنى والألقاب ومقادير قطع الورق وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام ومقادير البياض في أول الدرج وحاشيته ومقدار بعد ما بين السطور في الكتابات وبيان المستندات التي يصدر عنها ما يكتب من ديوان الإنشاء بهذه المملكة من مكاتبات وولايات وكتابة الملخصات وكيفية تعيين صاحب الديوان لها وبيان الفواتح، والخواتم وفيه أربعة أبواب:
الأمور التي تشترك فيها أنواع المكاتبات:

.الباب الأول في الأسماء والكنى والألقاب:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في الأسماء والكنى:

وفيه طرفان:

.الطرف الأول في الأسماء والاسم عند النحاة:

ما دل على مسمًى دلالة إشارة، واشتقاقه من السمة وهي العلامة لأنه يصير علامةً على المسمى يميزه عن غيره، أو من السمو لأن الاسم يعلو المسمى باعتبار وضعه عليه.
ثم المراد هنا بالاسم أحد أقسام الكلم، وهو ما ليس بكنية ولا لقب وفيه جملتان:

.الجملة الأولى في أصل التسمية والمقصود منها وتنويع الأسماء وما يستحسن منها وما يستقبح:

أما أصل التسمية فهي لا تخرج عن أمرين: أحدهما أن يكون الاسم مرتجلاً: بأن يضعه الواضع على المسمى ابتداء، كأدد اسم رجل، وسعاد اسم امرأة، فإنهما ليسا بمسبوقين بالوضع على غيرهما، والرجوع في معرفة ذلك إلى النقل والأستقراء.
والثاني أن يكون الاسم منقولاً عن معنًى آخر، كاسدٍ إذا سمي به الرجل نقلاً عن الحيوان المفترس، وزيدٍ إذا سمي به نقلاً عن معنى الزيادة وما أشبه ذلك. وهذا هو أكثر الأسماء الأعلام وقوعاً، والرجوع في معرفته إلى النقل والأستقراء أيضاً كما تقدم في المرتجل.
وأما المقصود من التسمية، فتمييز المسمى عن غيره، بالاسم الموضوع عليه ليتعرف.
وأما تنويع الأسماء، فيختلف باختلاف المسمين وما يدور في خزائن خيالهم مما يألفونه ويجاورونه ويخالطونه.
فالعرب- أكثر أسمائهم منقولةٌ عما لديهم مما يدور في خزائن خيالهم إما من أسماء الحيوان كبكر: وهو ولد الناقة، وأسد: وهو الحيوان المفترس المعروف، وإما من أسماء النبات كحنظلة: وهو اسمٌ لواحدة الحنظل الذي هو النبات المعروف من نبات البادية، وطلحة: وهو اسمٌ لشجرة من شجر الغضى، وعوسجة: وهو اسم لشجرة من شجر البادية. وإما من أجزاء الأرض كحزن: وهو الغليظ من الأرض، وصخر: وهو الصلد من الحجارة. وإما من أسماء الزمان كربيع: وهو أحد فصول السنة الأربعة. وإما من أسماء النجوم كسماك: اسم لنجم معروفٍ. وإما من أسماء الفاعلين: كحارث فاعل من الحرث، وهمام فاعل من هم أن يفعل كذا، إلى غير ذلك من المنقولات التي لا تحصى.
وكان من عادتهم أن يختاروا لأبنائهم من الأسماء ما فيه البأس والشدة ونحو ذلك: كمحارب، ومقاتل، ومزاحم، ومدافع ونحو ذلك، ولمواليهم ما فيه معنى التفاؤل: كفرح، ونجاح، وسالم، ومبارك، وما أشبهها، ويقولون: أسماء أبنائنا لأعدائنا، وأسماء موالينا لنا، وذلك أن الأنسان أكثر ما يدعو في ليله ونهاره مواليه للاستخدام دون أبناءه فإنه إنما يحتاج إليهم في وقت القتال ونحوه.
والترك- راعوا في أسمائهم ما يدل على الجلادة والقوة مما يألفونه ويجاورونه، وغالب ما يسمون باسم بغا، ومعناه بلغتهم الفحل: إما مفرداً كما تقدم وهو قليل، وإما موصوفاً بحيوان من الحيوانات، مقدمين الصفة على الموصوف على قاعدة لغتهم في ذلك، كطيبغا بمعنى فحلٍ مهرٍ. وإما بمعدنٍ من المعادن: كالطنبغا بمعنى فحلٍ ذهبٍ، وكمشبغا بمعنى فحلٍ فضةٍ، وتمر بغا بمعنى فحلٍ حديد. وربما أبدل اسم الفحل باسم الحديد، واسمه بلغتهم دمركبي دمر بمعنى أمير حديد، وطي دمر بمعنى مهر حديد. وربما أفردوا الاسم بالوصف كدمر بمعنى حديد، وأرسلان بمعنى أسد، وتنكز بمعنى بحر، ونحو ذلك إلى غير ذلك من المفردات والمركبات التي لا يأخذها حصر. وكذلك كل أمة من أمم الأعاجم تراعي في التسمية ما يدور في خزانة خيالها مما يخالطونه ويجاورونه.
وأما الأمم المتدينة فإنهم راعوا في أسمائهم التسمية بأسماء أنبيائهم وصحابهم.
فالمسلمون- تسموا باسمي النبي صلى الله عليه وسلم الواردين في القرآن وهما محمد وأحمد إذ يقول صلى الله عليه وسلم، تسموا باسمي. وكذلك تسموا باسم غيره من الأنبياء عليهم السلام: إما بكثرةٍ: كإبراهيم، وموسى، وهارون، وإما بقلةٍ: كآدم، ونوحٍ، ولوطٍ. وأخذوا بوافر حظ من أسماء الصحابة رضوان الله عليهم: كأبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وحسنٍ، وحسين، وما أشبه ذلك.
والنصارى- تسموا باسم عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام ممن يعتقدون نبوته: كإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وكذلك أسماء الحواريين: كبطرس، ويوحنا، وتوما، ومتى، ولوقا، وسمعان، وبرتلوما، وأندراوس، ونحوها: كمرقص وبولص، وغيرهما.
واليهود- تسموا باسم موسى عليهالسلام وغيره من الأنبياء الذين يعتقدون نبوتهم: كإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ولم يتسموا باسم عيسى عليه السلام لإنكارهم نبوته.
وأما ما يستحسن من الأسماء فما وردت الشريعة بالندب إلى التسمية به: كأسماء الأنبياء عليهم السلام، وعبد الله، وعبد الرحمن، ففي سنن أبي داود والترمذي من رواية أبي وهبٍ الجشمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارثٌ، وهمام، وأقبحها حربٌ ومرة».
وأما ما يستقبح فما وردت الشريعة بالنهي عنه: إما لكراهة لفظه كحربٍ ومرة، وإما للتطير به كرباح، وأفلح، ونجيح، وراجح، ورافع، ونحوها. ففي صحيح مسلم وغيره النهي عن التسمية بمثل ذلك معللاً بأنك تقول: أثم هو؟ فيقال لا، وإما لعظمةٍ فيه: كالتسمية بشاهنشاه، ومعناه بالفارسية ملك الملأك. ففي الصحيحين من رواية أبي هريرة أنه أخنع اسمٍ، وقد ورد في جامع الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح.

.الجملة الثانية في مواضع ذكر الأسماء في المكاتبات والولايات:

أما المكاتبات، فالأسماء التي تذكر فيها على أربعة أنواع:
النوع الأول: اسم المكتوب عنه:
وذكره إنما يقع في المكاتبات في موضع الخضوع والتواضع، إذ من شأن المكتوب عنه ذلك، وله محلان: المحل الأول- في نفس المكاتبة وذلك فيما إذا كانت بصورة من فلان إلى فلان، كما كان يكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله إلى فلانٍ، وكما كان يكتب عن الخلفاء: من عبد الله فلان أمير المؤمنين إلى فلانٍ، وكما يكتب الآن في المكاتبات السلطانية إلى ملوك المغرب، وما يكتب عنهم إلى الأبواب السلطانية ونحو ذلك.
المحل الثاني- العلامة في المكاتبات كما يكتب المملوك فلان، أو أخوه فلان، أو شاكره فلانٌ، أو فلانٌ فقط، ونحو ذلك على اختلاف المراتب الأتية على ما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني: اسم المكتوب إليه:
وله محلان:
المحل الأول- ابتداء المكاتبة كما يكتب في بعض المكاتبات من فلان إلى فلان، أو إلى فلانٍ من فلانٍ، ونحو ذلك، وكما يكتب في مكاتبات القانات فلان خان، وكما يذكر اسم ملوك الكفر في مكاتباتهم عن الأبواب السلطانية ونحو ذلك. وفيما عدا ذلك من الكاتبات المصدرة بالتقبيل والدعاء وغيرهما من المصطلح عليه في زماننا وما قاربه لا يصرح باسم المكتوب إليه غالباً تعظيماً له عن التفوه بذكره، إذ ترك التصريح بالاسم دليل التعظيم والتوفير والتبجيل.
بخلاف الكنية واللقب، فإنهما بصدد التعظيم للملقب أو المكني على ما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى ولذلك لم يخاطب الله تعالى نبيه محمداً في كتابه العزيز باسمه تشريفاً لمقامه، ورفعةً لمحله، فلم يقل يا محمد ويا أحمد كما قال يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى.
بل قال: {يا أيها الرسول}، {يا أيها النبي} وقد صرح أصحابنا الشافعية وغيرهم أنه لا يجوز نداؤه صلى الله عليه وسلم باسمه احتجاجاً بالآية الكريمة.
وفي كتاب ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معه غلامٌ فقال للغلام: من هذا؟- قال أبي- قال: فلا تمش أمامه ولا تستسب له، ولا تجلس قبله، ولاتدعه باسمه.
المحل الثاني- العنوان من الأدنى إلى الأعلى.
كما يكتب في عنوان بعض المكاتبات مطالعة المملوك فلان على ما سيأتي في الكلام على العنوان.
وإذا كان من تعظيم المخاطب أن لايخاطب باسمه فكذلك في مكاتبته: لأن المكاتبة الصادرة إلى الشخص قائمةٌ مقام خطابه، بل المكاتبة أجدر بالتعظيم لاصطلاحهم في القديم والحديث على ذلك.
النوع الثالث: اسم المكتوب بسببه:
وهو مما لا نقص بسبب ذكره، إذ لا بد من التصريح باسمه ليعرف اللهم إلا أن يشتهر حتى تغني شهرته عن ذكر اسمه، وله محلان: المحل الأول: في الطرة بأن يقال: هذا ما عهد به فلانٌ إما الخليفة في عهده بالخلافة أو السلطنة، أو السلطان في عهده بالسلطنة على ما سيأتي بيانه.
وفي معنى ذلك البيعات بأن يقال مبايعةٌ شريفة لفلان ونحو ذلك.
المحل الثاني- صدر الولاية حيث يقال: هذا ما عهد عبد الله ووليه فلان، أو من عبد الله ووليه فلان، ونحو ذلك على اختلاف المذاهب في الابتداء على ما سيأتي.
النوع الرابع: اسم من تصدر إليه الولاية:
وله محلان:
المحل الأول- في الطرة إما في العهود حيث يقال: هذا ما عهد فلانٌ إلى فلان. وإما في التقاليد والتواقيع والمراسيم، حيث يقال: أن يفوض إلى فلان، أو أن يستقر فلان، أو أن يرتب فلانٌ.
المحل الثاني- أثناء الولاية حيث يقال: أن يفوض إلى فلان، أو أن يستقر فلان، أو أن يرتب فلان، على نظير ما في الطرة، أما المولى عليه فقل أن يذكر كما في التحدث على شخص معين ونحوه.

.الطرف الثاني في الكنى:

والكنية عند النحاة أحد أقسام العلم أيضاً، والمراد بها ما صدر بأبٍ أو أمً، مثل أبي القاسم، وأم كلثوم وما أشبه ذلك.
وقد كان للعرب بالكنى أتم العناية، حتى إنهم كنوا جملةً من الحيوان بكنىً مختلفةٍ: فكنوا الأسد بأبي الحارث، والثعلب بأبي الحصين، والديك بأبي سليمان، وكنوا الضبع بأمر عامرٍ، والدجاجة بأم حفصة، والجرادة بأم عوف ونحو ذلك، وفيه ثلاث جمل:
الجملة الأولى في جواز الكنية وهي على نوعين:
النوع الأول: كنى المسلمين:
قال الشيخ محي الدين النووي رحمه الله في كتابه الأذكار: وجواز التكني أشهر من أن نذكر فيه شيئاً منقولاً، فإن دلائله يشترك فيها الخواص والعوام.
قال: والأدب أن يخاطب أهل الفضل ومن قاربهم بالكنية، وكذلك إن كتب إليه رسالةً، أو روى عنه روايةً.
فيقال: حدثنا الشيخ أو الإمام أبو فلانٍ فلان بن فلان وما أشبهه.
واعلم أن الأولين أكثر ما كانوا يعظمون بعضهم بعضاً في المخاطبات ونحوها بالكنى، ويرون ذلك في غاية الرفعة ونهاية التعظيم حتى في الخلفاء والملوك: فيقال: أبو فلان فلانٌ، وبالغوا في ذلك حتى كنوا من اسمه في الأصل كنية فقالوا في أبي بكر أبو المناقب اعتناءً بشأن الكنية، وربما وقف الأمر في الزمن القديم في تكنية خاصة الخليفة وأمرائه على ما يكنيه به الخليفة، فيكون له في الرفعة منتهى ينتهي إليه، ثم رجع أمرهم بعد ذلك إلى التعظيم بالألقاب.
على أن التعظيم بالكنى باقٍ في الخلفاء والملوك فمن دونهم إلى الآن على ما ستقف عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى، وكذلك القضاة والعلماء، بخلاف الأمراء والجند والكتاب، فإنه لا عناية لهم بالتكني.
ثم لا فرق في جواز التكني بين الرجال والنساء، فقد كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تكنى بأم عبد الله وكذلك غيرها من نساء الصحابة والتابعين، كان لهم كنىً يكتنين بها.
النوع الثاني: كنى أهل الكفر والفسقة والمبتدعين:
قال النووي: ولاكافر والفاسق والمبتدع إن كان لا يعرف إلا بالكنية جاز تكنيته.
قال تعالى: {تبت يدا أبي لهبٍ} واسمه عبد العزى، قيل: إنه ذكر تكنيته لكونه كان لا يعرف إلا بها، وقيل: كراهةً لاسمه حيث جعل عبداً للصنم، وقد تكرر في الحديث ذكر أبي طالبٍ بكنيته، واسمه عبد مناف.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما مر بأرض الحجر من الشام، قال هذا قبر أبي رغالٍ لعاقر الناقة من قوم ثمود.
قال: وكذلك إذا خيف من ذكره باسمه فتنةٌ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمارٍ ليعود سعد بن عبادة رضي الله عنه، فمر في طريقه على عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، وما كان من بذاءته على النبي صلى الله عليه وسلم حين مر عليه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سار حتى دخل على سعد بن عبادة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تسمع إلى ما قال أبو حبابٍ؟» يريد عبد الله بن أبي ابن سلول قال كذا وكذا. وذكر الحديث.
قال: فإن كان يعرف بغير الكنية ولم تخف فتنةٌ لم يزد على الاسم كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: كتب من محمدٍ عبد الله ورسوله إلى هرقل فسماه باسمه ولم يكنه ولا لقبه بملك الروم.
قال: ونظائر هذا كثيرة، وقدأمرنا بالإغلاظ عليهم، ولا ينبغي لنا أن نكنيهم، ولا نرفق بهم، ولا نلين لهم قولاً، ولا نظهر لهم وداً ولا مؤالفة.
الجملة الثانية فيما يكنى به:
وهو على نوعين:
النوع الأول: كنى الرجال:
ولها حالان:
الحال الأول- أن يكون للرجل ولدٌ وأولادٌ. قال النووي: فإن كان له ولدٌ يكنى به، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الولد ذكراً أو أنثى، فيجوز تكنية الرجل بأبي فلانة كما يجوز بأبي فلان.
فقد تكنى جماعةٌ من أفاضل السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم بأبي فلانة، فمن الصحابة أبو ليلى: والد عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو فاطمة الليثي، وأبو مريم الأزدي، وأبو رقية تميم الداري وأبو زرعة المقداد بن معدي كرب.
ومن التابعين أبو عائشة مسروق بن الأجدع وخلائق لا يحصون.
وإن كان له أولادٌ يكنى بأكبرهم: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكنى بأبي القاسم، وكان القاسم أكبر بنيه.
وفي سنن أبي داود والنسائي عن شريح الحارثي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه فسمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله هو الحكم وإليه الحكم! فلم تكنى أبا الحكم. - قال: إن قومي اختلفوا في شيء فأتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا! فما لك من ولد؟- قال: شريحٌ، ومسلم، وعبد الله- قال: فمن أكبرهم؟- قال- شريح- قال: فأنت أبو شريح.
فلم تكنى بغير أولاد فلا بأس به قال النووي. ثم قال: وهذا الباب واسعٌ لا يحصى من يتصف به.
وقد اختلف في جواز التكني بأبي القاسم: فنص الشافعي رضي الله عنه على أنه لا يجوز التكني بذلك مطلقاً، لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي».
وذهب ذاهبون إلى تخصيص ذلك بحياته صلى الله عليه وسلم احتجاجاً بأن المنع فيه كان لعلة: وهي أن اليهود كانوا ينادون يا أبا القاسم! فإذا التفت النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لم نعنك، قصداً لإيذائه صلى الله عليه وسلم وقد زالت هذه العلة بوفاته صلى الله عليه وسلم، واختاره النووي من أصحابنا الشافعية.
وذهب آخرون إلى تخصيص المنع بما إذا جمع لواحدٍ بين الإسم والكنية، بأن يتسمى محمداً ويتكنى بأبي القاسم، بخلاف ما إذا لم يكن اسمه محمداً فإنه يجوز، وهو وجه قوي.
الحال الثاني- أن لا يكون لرجل ولدٌ بأن لم يولد له ولدٌ أصلاً، قال: النووي: فيجوز تكنيته حتى الصغير.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عميرٍ قال الراوي: أحسبه فطيماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء يقول يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ لنغير كان يلعب به.
قال النووي: وكان من الصحابة رضوان الله عليهم جماعاتٌ لهم كنىً قبل أن يولد لهم، كأبي هريرة وخلائق لا يحصون من التابعين فمن بعدهم.
قال: ولا كراهة فيه بل هو محبوب بشرطه.
واعلم أن الرجل قد يكون له كنيتان فأكثر، فقد كان لأمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه ثلاث كنىً: أبو عمرو، وأبو عبد الله، وأبو ليلى.
النوع الثاني: كنى النساء:
والحال فيه أنه إن كان للمرأة ولدٌ تكنت به ذكراً أو أنثى، كما تقدم في الرجل.
وإن كان لها أولاد تكنت بأكبرهم مع جواز الكنية بغير أولادها كما في الرجل أيضاً. قال النووي: ويجوز تكنيتها ولو لم يولد لها، ففي سنن أبي داود وغيره بأسانيد صحيحةٍ عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله كل صواحبي لهن كنى. قال: «فاكتني بابنك عبد الله»- يعني عبد الله بن الزبير، وهو ابن أختها أسماء، وكانت عائشة رضي الله عنها تكنى أم عبد الله.
قال هذا هو الصحيح المعروف.
وما رواه ابن السني عن عائشة أنها قالت: أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطاً فسماه عبد الله فحديث ضعيف. ثم كما تجوز تكنية الرجل بأبي فلانة، يجوز تكنية المرأة بأم فلانة من باب أولى.
الجملة الثالثة في التكني في المكاتبات والولايات:
فأما الكنية في المكاتبات فعلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تكني المكتوب عنه:
قال محمد بن عمر المدايني في كتاب القلم والدواة: أول من اكتنى في كتبه الوليد بن عبد الملك.
قال النووي في الأذكار: والأدب أن لا يذكر الرجل كنيته في كتابه ولا في غيره إلا أن لا يعرف إلا بكنيته، أو كانت الكنية أشهر من اسمه.
وقال أبو جعفر النحاس: إذا كانت الكنية أشهر، يكنى على نظيره ويسمى لمن فوقه ثم يلحق المعروف أبا فلان، أو بأبي فلانٍ.
ثم الكنية من المكتوب عنه قد تكون في صدر الكتاب كما يكتب عن الخلفاء من عبد الله ووليه أبي فلانٍ فلانٍ أمير المؤمنين: أو في موضع العلامة كما يكتب في الطغراة من السلطان لملوك الكفر بعد سياقه ألقاب السلطان أبو فلان فلانٌ أو في العنوان كما كان يكتب في المصطلح القديم من أبي فلانٍ فلان إلى فلانٍ.
النوع الثاني: تكنية المكتوب إليه:
وبه كان الاعتناء في الزمن المتقدم لا سيما إذا كان المكتوب إليه ممن يستحق التعظيم بالتكنية.
وكنية المكتوب إليه تارةً تكون في عنوان الكتاب كما يكتب إلى أبي فلان فلان وتارة تكون في صدر الكتاب كما كان يكتب من فلان إلى أبي فلان فلان.
النوع الثالث: تكنية المكتوب بسببه:
وهي تارةٌ تذكر في طرة الكتاب فيقال فمن قصد تعظيمه بما قصده أبو فلان فلان واستعماله قليل.
وتارة تذكر في أثناء الكتاب حيث يجري ذكره.
وأما الكنية في الولايات فلها محلان: أحدهما- في طرة الولاية، حيث يقال عهد شريف لأبي فلان فلان أو تقليد شريفٌ بأن يفوض إلى أبي فلانً فلان.
والثاني- في أثناء الولايات حيث يجري ذكره على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.